فصل: تفسير الآيات (30- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (30- 35):

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه الضالين، من الكافرين والمشركين، وعرضت تصوراتهم المريضة، لجلال الألوهية وكمالها، حتى لقد بلغ بهم الإسفاف في ضلال العقل، وسخف النظر، ما أوردهم هذا المورد الذي ينزلون فيه إلى هذا المنحدر من الضلال، فيعبدون أحجارا، وحيوانات، وأناسىّ، ويجعلونها آلهة، تخلق، وترزق، وتحيى، وتميت..!
فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن اللّه، الواحد، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان.
وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود، وتفكير متصل في أسراره وعجائبه، فهم كما وصفهم اللّه سبحانه في قوله: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} [191: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} إلفات إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإلى ما أبدع وصور في هذا الوجود.
فالسموات والأرض، كانتا شيئا واحدا، وكتلة متضخمة من المادة.
{كانَتا رَتْقاً} أي منضما بعضهما إلى بعض، فلا سماء، ولا أرض.. بل كون لا معلم فيه.. ثم كان من قدرة اللّه ومن علمه، وحكمته، أن أقام من هذا الكون المتضخم، هذا الوجود، في سمائه وأرضه، وما في سمائه من كواكب ونجوم، وما على أرضه من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد.. {كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما}.
أي فصلنا بعضهما عن بعض.. فكانت السماء، وكانت الأرض.
ثم كانت من السموات ما فيهن من عوالم، وكان من الأرض ما فيها من مخلوقات.
كانت السموات والأرض كتلة، أشبه بالنطفة التي يتخلّق منها الجنين.
فمن هذه النطفة كان هذا الإنسان، بل هذا الكون الصغير، وكان هذا الخلق السوىّ الذي هو عليه.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة، وهو الماء.. فهو أصل كل حىّ، وبذرة كل حياة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه.. فالإنسان، والحيوان، والنبات، قوامها جميعا الماء، الذي به لبست ثوب الحياة، ومنه تستمد بقاءها، ووجودها.. فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات.
وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث، الذي أثبت أن نشأة الحياة على هذه الأرض قد ظهرت أول ما ظهرت على شواطئ الأنهار.
فكانت أول أمرها ظلالا باهتة للحياة، وإشارة خافته إليها، ثم أخذت تنمو شيئا في بوتقة الزمن على مدى ملايين السنين، حتى ملأت هذه الدنيا، في صور متعددة، وأشكال مختلفة، لا تكاد تقع تحت حصر.
وفى قوله تعالى: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} نخسة لهؤلاء الضالين، أن يتنبهوا، وأن يوقظوا عقولهم، ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود، وما أبدع فيه الخالق وصوّر.
فلو أنهم أداروا عقولهم على هذا الوجود، بقلوب سليمة، ومشاعر متفتحة لا نكشف لهم من أسراره ما يحدّثهم أبلغ الحديث عن قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، المبثوثة في كل ذرة من ذرات هذا العالم.. وإذن لآمنوا باللّه، وأخبتوا له، ولا متلأت قلوبهم خشية ورهبة لسلطانه العظيم، الآخذ بناصية كل شيء، ولأفادوا من ذلك علما كثيرا يمكّن لهم في الأرض، ويسخر لهم من قواها مازال متأبيا عليهم، بعيدا عن متناول أيديهم.
فالإيمان لا يقع من القلب موقع الاستقرار والاطمئنان، إلا إذا جاء عن علم باللّه، وبما للّه من صفات الجلال والكمال.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
هو إلفات إلى ما صنع اللّه سبحانه وتعالى بالأرض، بعد أن فصلها عن مادة الوجود، وصورها على تلك الصورة.. فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى فيها جبالا راسية ثابتة، تشدّها، وتمسك بها أن تميد وتضطرب، وجعل في هذه الجبال فجاجا، أي فجوات، وهى سبل يسلكها الناس في انتقالهم من جهة إلى أخرى.
ويجعلون منها معالم يتعرفون منها إلى الأماكن والجهات، حتى لا يضلّوا في أسفارهم.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ}.
وكما أوجد اللّه سبحانه الأرض على هذه الصورة، وجعل فيها رواسى، وفجاجا سبلا، كذلك أقام السماء كما نرى، سقفا محفوظا بيد القدرة، فلا يقع علينا.
وفى قوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ} إشارة إلى ما في السماء من آيات ناطقة بقدرة اللّه، شاهدة على علمه وحكمته.. ببنائها القائم، وبما تتزين به من كواكب ونجوم.. ولكن هؤلاء الضالين، المشركين، في غفلة عن تلك الآيات الباهرة، لا يلقون إليها نظرا، ولا يديرون نحوها عقلا.
وفى إضافة الآيات إلى السماء، إشارة إلى عظمة هذا العالم العلوي، وأن السماء كون عظيم، وأن كل ما لاح في هذا الكون، هو آية من آيات هذا الكون العظيم.
وفيما كشف العلم عنه من هذا العالم العلوىّ، ما يبهر العقول، ويعجز الخيال.. وهو إلى جانب ما لم ينكشف أشبه بذرة من عالم الرمال، أو قطرة من عالم الماء فأين العقول التي تنظر؟ وأين البصائر التي تستبصر؟
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
هو عرض لبعض مظاهر قدرة اللّه، التي أشارت الآيات السابقة إلى بعض منها.. ومن مظاهر القدرة الإلهية خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، وإجراء كل منها في فلك خاص به، ومدار لا يتعداه.
وفى التعبير عن حركة الليل والنهار، بالخلق، إشارة إلى ما لهما من وجود ذاتىّ غير عارض، وأن وجودهما مقصود لذاته، حيث يأخذان من الوجود ويعطيان، شأنهما في هذا شأن الإنسان المكلّف، المطلوب منه رسالة يؤديها في الحياة.
وشأنهما كذلك شأن الشمس والقمر، فهما أي الليل والنهار، وإن كانا مظهرا من مظاهر حركة الأرض حول نفسها، إلا أنهما صاحبا سلطان على كل ما يقع في فلكهما، كما للشمس سلطان على كل ما يقع في فلكها،. ولهذا جاء قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مسندا فيه الفعل إلى هذه المخلوقات بضمير العاقل، ليشير بذلك إلى أنها كائنات تسير على هدى، فلا تزلّ، ولا تنحرف، حتى لكأنها موجهة بإرادة عقل رشيد حكيم.. فهى وإن بدت لنا أنها غير عاقلة، فإن نظامها الذي تجرى عليه ليدلّ على أنها تتحرك بتوجيه قوة عاقلة حكيمة، إن لم تكن في ذاتها فهى قائمة عليها.
أما حين لا تراد هذه المخلوقات لذاتها، وإنما تراد آثارها، أو بعض آثارها، فإن التعبير القرآنى عن ذلك يجيء بلفظ الجعل لا الخلق.
مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} [96:
الأنعام] وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} [12: الإسراء].
وفى ضمير الجمع العاقل في {يَسْبَحُونَ} إشارة إلى أنه وإن كان لكل مخلوق من هذه المخلوقات فلك يسبح فيه، فإنها جميعا ينتظمها فلك عام، هو فلك الوجود كله، الذي يحوى كل فلك! قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ}.
كان المشركون يستثقلون مقام النبيّ الكريم فيهم، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه، وألوان الأذى، النفسي والمادي، في نفسه، وفى أصحابه، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل.. فلما ضاقوا به ذرعا، وأعيتهم الوسائل في صده عن دعوته إلى اللّه- كان ممّا يعزّون به أنفسهم، ويمنّونها الأمانىّ فيه، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره، وقد ذهب أكثره، ولم يبق إلا قليله، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين، وها هو ذا صلوات اللّه وسلامه عليه، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض، حتى يأتيه النون! وهذا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [30: الطور].
فجاء قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} مسفّها هذا المنطق السقيم، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب في أيديهم.. فالموت حكم قائم على كل نفس.. فإذا مات النبيّ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير، وإنما الناس جميعا، صائرون إلى هذا المصير.. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا في أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا في يده، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟
ولهذا ردّ اللّه عليهم بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ}.
فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا في هذه الدنيا، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [30: الزّمر].. إن المعركة بين حق وباطل، فما سلاحهم الذي يحاربون به في هذا الميدان؟ إنه الباطل، وإنه لمهزوم مخذول: {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} هو جواب على هذا السؤال الذي جاء في الآية السابقة: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ}؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع.
وفى قوله تعالى: {ذائِقَةُ الْمَوْتِ} إشارة إلى أن للموت طعما، تجده النفوس حين تفارق الأجساد.
وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس.. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده، وتستسيغ طعمه، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي، حيث تروى ظمأها، وتبرّد نار أشواقها، وتنعم في جنات النعيم التي وعد اللّه المتقين.
أما النفس الضالة الآثمة، فإنما يحضرها عند الموت، حصاد ما عملت من آثام، وما ارتكبت من منكرات، وتشهد ما يلقاها من غضب اللّه وعذابه، فتكره الموت، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [93: الأنعام] وقوله سبحانه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} [55: التوبة].
وفى قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} إشارة إلى ما يقع للناس في دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا.. فذلك كله ابتلاء لهم، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع، ومع الخير من شكر أو كفر.
فما تستقبله النفوس مما يكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء اللّه، والتسليم له.. وما تستقبله مما يحبّ، هو امتحان لها كذلك، على الشكر والحمد لما آتاها اللّه من فضله وإحسانه.
فالنفوس المؤمنة، لا تجزع من المكروه، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب، لأن كلّا من عند اللّه، وما كان من عند اللّه فهو خير كله، محبوب جميعه.. هكذا تجده النفوس المؤمنة باللّه، العارفة لجلاله، وعظمته، وحكمته.
أما النفوس الضالة عن اللّه، فإنها إن أصابها شيء من الضرّ، جزعت، وزادت كفرا وضلالا، وإن مسّها الخير، نفرت نفار الحيوان الشرس، واتخذت من نعمة اللّه سلاحا تحارب به اللّه، وتضرب في وجوه عباد اللّه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [19- 27: المعارج].
ونحبّ أن نقف هنا وقفة، مع قضية الخير والشرّ.
نعالج فيها ما يدور في بعض الرءوس من تساؤلات عن الشرّ وعن الحكمة في أن يقع في هذه الحياة، وعن ابتلاء الناس به، وعن نسبته إلى اللّه.. إلى غير ذلك مما سنعرضه مفصلا في المبحث التالي:
الخير.. والشر، التّلازم بين الخير والشر:
ينزع العقل دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور في محيط تفكيره.. فلا يكاد أمر من الأمور يقع في مجال النظر العقلي، حتى يستثير له العقل من عالم الواقع، أو عالم الخيال، كائنا آخر، يقف منه موقف التضادّ والعناد، ليرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه.. فإذا ذاق المرء طمعا حلوا، ذكر الطعم المرّ، وإذا لمس اللّبن استشعر الخشن، وإذا فكر في الحق، تذكّر الباطل.. وهكذا تعيش الأشياء، من المعاني والمحسوسات، في عالم الحسّ والفكر، مثنى.. مثنى.. الأمر وضدّه.
ومحال أن يعترف العقل في عالم الواقع، بالوجود الفردىّ لشيء من الأشياء، أو معنى من المعاني.. حتى لكأن الأشياء والمعاني كائنات حيّة، لا يضمن بقاءها ووجودها، إلا هذه المزاوجة! التي تجمع بين الشيء ومقابله، كما تجمع في عالم الأحياء بين الذكر والأنثى..!!
إن الحقيقة الفردية لا وجود لها في منطق العقل، فهو لا يعرف الشيء، ولا يعترف به، إلا إذا عرف المقابل له، ولو كان هذا المقابل عدما وسلبا.. فهو إن عجز عن أن يجد في عالم الواقع ما يقابل أو يضاد الشيء الذي بين يديه، انتزع من صفات العدم والسلوب لهذا الشيء، مشخّصات يقيم منها شخصية تقابله مقابلة التضاد والعناد.. فالوجود يقابله العدم، والحياة يقابلها الموت.. وهكذا.
يقول الفيلسوف الأمريكى وليم چيمس: إننا لا ندرك تمام الإدراك القضية الصادقة، حتى نعلم مضمون ما يناقضها من قضايا كاذبة.. فالغلط ضرورى ليظهر الحقيقة على أحسن منوال، كما أن ظلام الجانب الخلفى- في آلة التصوير- ضرورى ليظهر صفاء الصورة ونضارتها.
ولعمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- كلمته المأثورة: من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه.
وعن طريق هذه الثنائية للأشياء، استطاع العقل أن يبعث الحياة في الكائنات الجامدة، وأن يقيم من المعاني المجرّدة مشخصات، حين يجمع بين المتضادات، ويقابل بين المتناقضات، فتتعاند، وتتصادم، ويتولد من تعاندها وتصادمها واحتكاكها، شرارات المعرفة، التي تكشف للعقل عن حقيقتين في وقت معا، عند معالجته لحقيقة واحدة.. هما: الشيء وضده، أو الشيء ومقابله.
وعن هذه الثنائية، نشأ هذا التلازم بين الخير والشر.. فإذا ذكر الخير، ذكر معه الشرّ، وظهرا معا في مجال الفكر متقابلين، تقابل الصورة وسالبها في عمل للصورة الفتوغرافية.
والسؤال هنا هو: هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع في الحياة؟
أم أنه مجرد عملية من عمليات العقل، وطريقة من طرائقه في فهم الأشياء، وكشف الحقائق؟
وسؤال آخر.. هل هناك خير؟ وإذا كان.. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان.. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟
الخير والشر.. وواقع الحياة:
ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، كلمتا الخير والشر.
فما عرض لإنسان أمر، أو وقع له شيء، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر، وإلّا أخذه بأحد الوصفين: الخير والشر.. إن هاتين الكلمتين، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شيء يأخذه أو يدعه.. الخير في كفة، والشرّ في الكفة الأخرى.. هكذا تجرى حياة الناس، وهكذا تجيء تصرفاتهم وبقع سلوكهم، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى.. فإذا تعادلتا، توقف الإنسان ووقع في حيرة بين ما يأخذ وما يدع! إننا جميعا نقول بالخير والشر.. نعرفهما، ونعمل ونتعامل في حدودهما، ونزن حظوظنا من كلّ شيء بهما.
ومع هذا، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأن في الحياة خيرا أو شرا.
فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود، إذعانا لهذا الرأى، ونزولا على حكمه؟
ولكن.. مهلا.
ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟
إننا نتحدث منذ أخذنا في هذا الحديث، عن الخير والشر، كأنهما حقيقتان واقعتان، متفق على ماهيتهما، متعارف على الحدود القائمة بينهما.
مع أن الواقع غير ذلك.
فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم في تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا.
ما هي الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت في أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟
إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.
ما الخير إذن؟
يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به.
فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع في الناس، واقع في إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس في صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون في ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا.
ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس في الخير- وهذا أمر طبيعى- لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير، وإنما هذا الاختلاف في ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشيء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته- أيا كان هذا الشيء- هو خير وخير كثير.
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، في صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها.
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان في خطواته الأولى في الحياة.. فعبد كل شيء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، في مجال النفع والضر على السواء.
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر.
فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها.
وهكذا انتهى الإنسان في مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر في دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر!
فلسفة المثنوية:
وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها.
ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل في هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود.
ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق في هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال.
ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة في العقيدة المثنوية هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان في مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور يزدان ولإله الشرّ بالظلام أهرمن.
وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر في هذين الإلهين، وسلطان كل منهما في هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لابد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.
فذهب فريق منهم إلى أن يزدان- وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما أهرمن- وهو الظلام- فحادث مخلوق.
وفى زمن متأخر جاء زرادشت بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن اللّه واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولكن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!
وهما- أي النور والظلام- يتقاومان، ويتغالبان، إلى أن يغلب النور الظلام، والخير الشرّ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه.
والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التركيب.. ويرى زرادشت أن النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقى، وأمّا الظلمة فتبع له.. كالظل بالنسبة إلى الشخص.. ولما كان الباري يرى أنه موجود، وليس بموجود، فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا.. لأن من ضرورة الوجود التضادّ.
ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة في سفر التكوين.. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له! كما يلاحظ أيضا أن قول زرادشت بأن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة- يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين.. فالخير ممتزج بالشر، والشرّ معه الخير.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
الخير والشر في معابير الفلسفة الحديثة:
ولابد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا، وإلى نظرته إلى الخير والشر، عند العلماء، والفلاسفة، ورجال الدّين والأخلاق.
فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر في منهجها.
كان ما وراء الطبيعة في الفلسفة القديمة، هو كل ما يشغل الفلاسفة، ويسيطر على تفكيرهم.. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على التصورات والفروض.. وطبيعىّ ألا يكون للإنسان حظ بارز في هذه الفلسفة.
وكانت دعوة أرسطو إلى النظر في عالم الواقع والحسّ، في كلمته المشهورة: اعرف نفسك كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة.. ولكن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر في السماء، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان.. من روح، ونفس، وعقل، ولم توجّه النظر إلى المادة، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها، بل ويعيش منها وعليها.
أما في هذا العصر، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، فقد فتن الناس بالواقع التجربي، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها، ميدان الصراع العقلي بين العلماء.
فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية، وتغير منهج الفلسفة.. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض- أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء..!
وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين.
إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم، وكان الإنسان هو أعلى، وأعظم ظاهرة فيها.
ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين في تكفير الإنسان، وفى سلوكه، فقد عنيت بهما الفلسفة، فيما عنيت به من شأن الإنسان، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد القيمة لكل من الخير والشرّ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما.
وتصور.. كيف يكون الحال، لو عرف الناس ميزانا دقيقا يزنون به تصرفاتهم- قبل أن تقع- وتتبيّنوا جانب الخير، وجانب الشر منها؟ إن إنسانا لن يمدّ يده، أو يسعى برجله، إلى شر أبدا.. وكيف وقد استبان له وجه الخير والشرّ، على الصورة التي يقعان بها؟.
وقد تقول: إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها، ومع هذا، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه، ومع هذا فإنه واقع في سلوك الناس.. قد تقول هذا! ونحن نوافقك على هذا الاعتراض، ولكن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب بالحتمية التي تجعل وقوعه أمرا لازما، لا مفرّ منه، عند الذين يتلبّسون به على الأقل.. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما في وجه ما يبدو أنه شرّ محض! وهذه الاحتمالية هي الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ، فيما هو شر، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان، ويغربه بفعل ما هو شر، وإن كان يراه رأى العين!! ولا شك أن رغباتنا، وعواطفنا، تلعبان دورا هاما، في مجال العمليات الاحتمالية، فتقوبها أو تضعفها، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه، وما عندنا من إرادة، وعزم، وثورة، على ضبط هذه الرغبات، وكبح جماح تلك العواطف!! ومع هذا، فإننا نقول: إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ في هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها، فيكون للاحتمالية ومكانها في الخير أن يكون شرا، وفى الشرّ أن يكون خيرا- وبذلك تقوم دواعى العمل، ويكون للحياة دورانها، وللناس سعيهم في كل وجه، فيعملون فيما يحسبون أنه خير، وإن جاء بالشر!! {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ولو استبان للناس وجه الخير صريحا، لكان ركب الحياة كلّه متجها إلى هذا الوجه وحده، ولكان الناس على طريق واحد!! ولكن أي ركب هذا الذي يأخذ طريقا واحدا؟ إنه ركب جامد صامت لا حركة فيه.. إنه أشبه بالتيار الموجب في القوة الكهربائية.. لا يعمل، ولا يتحرك، ولا تصدر عنه فاعلية في إحداث حرارة أو ضوء، إلا إذا اتصل بالتيار السالب، وتفاعل معه!.
إن معالجتنا للأمور، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها، ونخرج من أيدينا، ولو استدارت لنا عواقب الأمور، فرأيناها قبل أن نعالجها، لكان شأننا في الحياة غير هذه الشأن، فما أخطأ مخطئ، ولا خسر خاسر، ولا أصيب مصاب.. وهكذا، مما يقع للناس، مما يسوؤهم.. ولكان شاعرا كابن الرومىّ على غير ما كان عليه، من الخوف، والتردد، والعجز، عن لقاء الحياة.. ولما قال هذا القول، مصورا به نفسه:
أقدّم رجلا رغبة في رغيبة ** وأمسك أخرى رهبة للمعاطب

ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ** ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب!

ونعود فنقول إن الفلسفة الحديثة، وإن بدأت بالنظر إلى الإنسان، ممثلا في المجتمع الإنسانى، فإنها انتهت بالإنسانية ممثلة في الإنسان.. بمعنى أن الإنسان من حيث هو كائن له ذاتيته، وله مدركاته، ومشاعره- هذا الإنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة.. وإذا كان لها نظر إلى المجتمع الإنسانى، وإلى الروابط التي تربط الفرد بالجماعة، فهو نظر جانبي يجيء تبعا للنظرة المتجهة اتجاها مباشرا إلى الإنسان وحده.
ومن هنا كان الحكم على الخير والشر- في تقدير الفلسفة الحديثة- قائما على أساس فردى بحت، بمعنى أن الفرد- والفرد وحده- هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجيء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا، شرا، وما رآه شرا، هو عنده خير.
وعلى هذا، فهناك- عند الفلسفة الحديثة- خير وشر، ولكن لا ذاتية للخير أو الشرّ، بل هما أمران اعتباريّان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا.. وإنه لا خير ولا شرّ في حقيقة الأمر!! وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى وليم جيمس: إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ، والفضيلة والرذيلة.. إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه.. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو!! ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء، وتصنيفها، ووضع كل شيء منها في موضعه من الخير والشر، والحسن والقبح..!
الخير والشرّ في نظر الإسلام:
لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي في حقائق الأشياء، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات العقلية، ولا تخريج الفلاسفة والحكماء، وإنما رسالتها تقوم أساسا على تقويم السلوك، وتهذيب النفوس، وإقامة مجتمعات إنسانية على مبادئ الخير والعدل والإحسان.
ومن هنا، لا نجد في الشريعة الإسلامية تلك التعريفات الجامعة المانعة- كما يقولون- للخير والشرّ، والحقّ والباطل، والحسن والقبيح، وغير ذلك من الصور التي عنى الفلاسفة والأخلاقيون، بتحليلها، والتعرف على عناصرها، وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها.
فإذا قال الفلاسفة والأخلاقيون: إن الحق هو كذا، والخير هو كذا، والحسن كذا- لم نجد في كتاب اللّه ولا سنّة رسوله قولا عن الحق.. ما هو؟
والخير ما هو؟ والحسن ما هو؟ وإنما نجد دعوات إلى الحق، والخير، والإحسان، وإغراء بها، وتحريضا عليها، ورصدا للجزاء الحسن لمن استقام عليها.. كذلك نجد عكس هذا، إزاء كل ما هو باطل، وشر، وخبيث!.
ولم يكن إغفال الشريعة الإسلامية لرسم حدود الفضائل، وتقويم الأخلاق عن تهوين لشأنها، أو استصغار لخطرها.. وكيف وغاية الشريعة ومقصدها أولا وأخيرا، إنما هو تقويم الأخلاق، وتربيتها، وإقامتها على منهج سليم مستقيم! وكيف والنبىّ الكريم يجعل عنوان رسالته، ويحصر مهمة نبوته في هذا المجال وحده: فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؟ فليس عن تهوين إذن من شأن الأخلاق، ولا عن استصغار لخطرها، هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه الشريعة في إغفالها البحث عن ماهية الأخلاق.. إذ كان مقصد الشريعة وهدفها- كما قلنا- هو الجانب العملي للأخلاق.. الجانب السلوكى، الذي لا يغنى في تعديله وتقويمه، الجدل الفلسفي، أو النظر المنطقي، وإنما الذي يرجى منه النفع في هذا المقام، هو إثارة مشاعر السموّ النفسي في الإنسان، ووصله بالمجتمع الإنسانى بصلات الأخوة، والحنان والرحمة.. فذلك هو الذي يقيم من الإنسان إنسانا صالحا في بناء مجتمع صالح.
فالقرآن الكريم يحضّ على الأعمال الصالحة ويزكيها، ويرفع منازل أهلها، وبعدهم بجنات اللّه ورضوانه عليها.
يذكر القرآن الكريم التقوى في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [70- 71: الأحزاب] فما هو العمل الصالح؟ وما هي التقوى؟ وما القول السديد؟.. كل ذلك لم يشأ القرآن الكريم أن يعرض له بالكشف عن ماهيته ورسم حدوده.
نعم، هناك أمور واضحة صريحة في باب الخير، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة في باب الشر.. ولكنها على هذا الوضوح، ومع تلك الصراحة، لا تقع من النفوس موقعا واحدا.. فإذا اتفقت النفوس على أن العدل جميل.. فإنه في نفس عمر بن الخطاب مثلا، غيره في نفس كثير من الناس.. هو خير لا شك فيه.. تدعو إليه الشريعة وتأمر به، وتثيب عليه.. ولكنها لا تستطيع أن تضعه في معادلة جبرية. أو تحلله تحليلا كيماويا.. إنه العدل، وكفى! وإنه الخير وكفى! «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» هكذا يقول الرسول الكريم.. وليست الشبهة في الحلال في ذاته، أو الحرام في داته، وإنما تقع الشبهة في الملابسات التي تلابس الحلال أو الحرام، وفى الوضع الذي يكون عليه الإنسان إزاء ما هو حلال وحرام..!
أتترك الأمور إذن بلا ضابط هكذا؟.
كلا.. ومن قال هذا؟
إن ربّان السفينة إذا أدار محركها أو فرد قلوعها، هو هالك لا محالة، إذا هو لم يعرف الوجهة التي يتجه إليها، وإذا لم يكن معه بوصلة أو ما يشبهها، ليستعين بها على معرفة الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وإذا لم يكن معه بوصلة أخرى أو ما يشبهها، يقيس بها الأعماق، أو يستدلّ بها على مهابّ الرياح! والإنسان هو سفينة في محيط هذه الحياة.. ربّانه العقل، وقلوعه النفس، ونزعاته وأهواؤه، هي التي تملأ قلوعها وتدفعها..!
لابد إذن من بوصلة تضبط سيره، وتحدد وجهته.
وما غفلت قدرة الحكيم العليم عن هذا.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وكيف، وهو الذي أعطى كلّ شيء خلقه.. ثم هدى؟.
لقد أودع الخالق العظيم في الإنسان أدقّ بوصلة وأضبطها.. إنها القلب.
وحسبك بالقلب السليم بوصلة عاملة في سفينة الحياة! لقد اعتمد الإسلام على القلب في تقويم الأخلاق، وفى التعرف على الخير والشر، والحسن والقبيح.. ووكل إليه الفصل في خير الأمور وشرها، وحسنها وقبيحها.
إن القلب في نظر الإسلام، هو العين الباصرة، التي تكشف للإنسان مسالكه، وتحديد المستقيم والمعوجّ من طرقه.
وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تتجه إلى القلب وتتحدث إليه.. فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} [37: ق] ويقول سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [28: الرعد].
والرسول الكريم، ينوّه بشأن القلب، ويكشف عن آثاره في الإنسان، فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صالحات صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه.. ألا وهى القلب».
ويقول الرسول الكريم في تعريف الخير والشر، وفى التعريف عليهما: «البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».
الإسلام إذن، يعترف بالخير والشرّ.. لأنهما أمران واقعان في الحياة، يعيشان في الناس، ويعيش فيهما الناس.. وقد جاءت الشريعة الإسلامية آمرة بالخير، ناهية عن الشر.. وأشارت إلى أمور بذاتها عدّتها خيرا، وأخرى اعتبرتها شرّا.. ثم جمعت الخير كله في دائرة واحدة هي المعروف وطوت الشر كله تحت حكم واحد، هو المنكر: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
فالخير هو المعروف أو وجه بارز من وجوه المعروف، والشر هو المنكر، أو وجه كالح من وجوه المنكر.
والسؤال هنا- ونحن في معرض البحث عن الخير والشر- إذا كان الخير أمرا محمودا، ودعوة من دعوات السماء إلى لقائه، والعمل به- فلم كان هذا الشرّ؟ وما حكمة وجوده؟
الشرّ موجود.. هذه حقيقة مسلّم بها، لا سبيل إلى إنكارها، أو تجاهلها! أمّا، لما ذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهلّا محضت الحياة للخير، وخلصت الشرّ؟.
أما هذا، فهو الذي يدور حوله الخلاف، ويكثر فيه الجدل.
وقد تجنب الإسلام- منذ قام- إيقاظ هذه الفتنة، فلم يطرق بابها من أية جهة، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد.. والحكمة في هذا ظاهرة.
إذ لا جدوى من أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علة أو عللا.. إنه موجود.
وكفى.. وحسبك من شرّ سماعه!.. والحزم كل الحزم في توقّيه، ودفعه، والخلاص منه.
إنه لمن السفاهة الغليظة، والخسران المبين، أن يرى الإنسان حيوانا يريد أن ينقضّ عليه ويفترسه، ثم لا يطلب النجاة لنفسه، بل يستغرق في تأملات سخيفة ليجيب على هذا السؤال: ما هذا الحيوان المؤذى؟ ولم كان؟
لم يرد الإسلام أن يسوق أتباعه إلى هذه المواقف الخاسرة.. بل صرفهم عنها صرفا، وخلّى بينهم وبين الحياة بخيرها وشرها بعد أن أراهم منازل الخير وثمراته، وأطمعهم فيه، ودعاهم إليه، ثم أراهم مزالق الشرّ، ومغباته، وخوّفهم منه، وتوعدهم على الاتصال به.
أليس ذلك هو النهج القاصد، والطريق المستقيم في تقديم الأخلاق وتربية النفوس؟
لقد كان ذلك هو طريق الإسلام، وكان ذلك هو موقفه حيال هذه القضية.. لم يوقد نارها، ولم يلق لها وقودا.
ولكن حين اتصل المسلمون بالأمم المجاورة، وعرفوا شيئا من فلسفة اليونان والهند، وشيئا من معتقدات الفرس، تحركت في نفوسهم هذه الفتنة الخالدة.
لما ذا وجد الشر؟
وقد فتحت الإجابة على هذا السؤال باب فتنة، أخذ يتسع شيئا فشيئا، حتى دخله المسلمون جميعا، وانقسموا إلى فرق وطوائف، ولكل فرقة مقولاتها ولكل طائفة حججها.. حتى كان من ذلك الجدل محصول وفير من الكلام!! ولا نريد أن نعرض لهذا الجدل، فهو مبسوط في كتب علم الكلام.
والذي نحبّ أن نقرره هنا.. هو أن الإسلام يوجّه اهتمامه أولا وقبل كل شيء، إلى مجاهدة الشر الذي يعيش في مجال الناس فعلا، وإلى محاولة التغلب عليه، والانتصار للخير، والانحياز إلى جانبه.. فذلك هو الجدير بالإنسان، من حيث هو إنسان، يحترم عقله، ويستهدى بقلبه، ومن حيث هو كائن اجتماعي، يعيش في المجتمع الإنسانى.. ومن خيره وخير الجماعة أن يكون عضوا في هذا المجتمع الكبير، يسعد بسعادته، ويشقى بشقائه.
إن الإسلام، لا يضع الشرّ في مجال العدم بالنسبة للخير، بل يراه كيانا قائما بذاته إزاء الخير.. فللشر- في نظر الإسلام- ذاتية قائمة في الحياة، وعلى الناس أن يأخذوا حذرهم منه، وأن يعملوا له حسابا في موازنة الأمور التي تعرض لهم.
لقد حاول كثير من مفكرى الإسلام، أن يهوّنوا من شأن الشرّ، وأن يجعلوا وجوده في الحياة، شيئا عارضا، يجيء في ثنايا الخير! وكأنهم أرادوا بهذا أن يبرّئوا صنع اللّه من هذا النقص، الذي يلحق بالوجود، إذا قيل إن الشرّ قد نجم فيه!! وهذا دفاع غير موفق.. إذ أنه ينكر أمرا واقعا يعيش في الناس.. وهو الشرّ.. وكان خيرا من هذا الدفاع أن يعترفوا بالشر.. ولكنه شرّ لا يرتفع إلى أكثر من ضرورات الحياة.. الحياة الإنسانية، التي يعتبر الشرّ فيها عنصرا من العناصر العاملة في دفع عجلة الحياة، ودوران دولاب العمل فيها.
يقول الجاحظ: اعلم أن المصلحة في ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها، والكثرة بالقلّة.. ولو كان الشرّ صرفا، لهلك الخلق، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير، ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التدبير، ولا دفع المضرّة، ولا اختلاف المنفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في جانب، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر، وعزّة الغلبة.. ولم يكن على ظهرها (أي الدنيا) محقّ يجد عزّ الحقّ، ومبطل يجد ذلّ الباطل، وموفّق يجد برد اليقين.. ولم يكن للنفوس آمال، ولم تتشعّبها الأطماع.
فالجاحظ هنا يكشف عن الدور، الذي يؤديه التفاوت بين الأمور، في امتداد مجال التنافس بين الناس.
إن الاختلاف بين الأشياء في مجال الخير والشرّ، هو الذي يملأ كل فراغ في الحياة، ويفسح لكل إنسان مكانا في قافلة الحياة، حسب استعداده، ونزعانه.. وهكذا تتحرك الحياة كلها، في آفاقها الصاعدة والنازلة، على السواء!.
والذي ينظر إلى الحياة نظرة فردية جانبية، يرى هذا التفاوت بين الناس وأوضاعهم في هذه الحياة.. فيرى قمما عالية، بينما يرى سفوحا، ومنحدرات، بل وحفرا.. ولكنه إذا نظر إلى الحياة عامة شاملة، لم ير إلا وحدة منتظمة، وإلّا سطحا مستويا، لا نجود فيه، ولا منحدرات.. كالذى ينظر من طائرة محلّقة في آفاق السماء، إلى مدينة واسعة الأرجاء.. إنه يرى دورها وقصورها، وأكواخها، ونواطح سحبها- في مستوى واحد.. كسطح أملس، لا فرق بين الأكواخ والقصور.
يقول الفيلسوف الأمريكى بوردن باركرباون: إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم في بعض، وقد يعارض بعضهم بعضا.. لكن هذا التضادّ بينهم، وهذا الانفصال والتجزؤ، يذوب كله في عنصر واحد يحويهم جميعا وما قد يبدو في عالم الجزئيات تضادّا، إن هو في حقيقة الأمر إلا اتساق، لو نظر إليه من أعلى نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها واحدة في كلّ واحد.
فهذا الفهم للحياة، لا ينكر وجود الشرّ وذاتيته في واقع الحياة الإنسانية، ولكنه حين يرتفع بالنظر عن الحياة الإنسانية الفردية، وعن مستوى هذه الأرض، لا يرى إلا عالما مشرقا، يفيض بالحسن والجمال.
إن حواسّنا، ومشاعرنا، ومداركنا، مضبوطة على مستوى هذا الوجود الأرضى الذي نعيش فيه.. وهذا التناقض، والتضادّ، والتعاند، الذي نراه- هو مما يقتضيه وجودنا، وتولده حاجاتنا، وتحققه مدركاننا وحواسنا.
ويقول الجاحظ: وأظنك ممن يرى الطاووس، أكرم على اللّه من الغراب، وأن الغزال أحبّ إلى اللّه من الذئب.. فإنما هذه أمور فرّقها اللّه اللّه تعالى في عيون الناس، وميّزها في طبائع العباد، فجعل بعضها أقرب بهم شبها، وجعل بعضها إنسيّا، وجعل بعضها وحشيّا، وبعضها عاديا، وبعضها قاتلا.
وكذلك الدرّة والخرزة، والنمرة، والجمرة.. فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يراك العقل وللأمور حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول.. والعقل هو الحجة.. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة، ليسوا بدون خزنة الجنة، وأن ملك الموت ليس دون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث، وجلب الحياة.
والذي يعنينا من هذا الكلام، أن الموجودات إنما تأخذ كيفيتها على حسب مدركاتنا، أو بمعنى أصحّ، أننا نكيّف الموجودات حسب وقوعها على حواسنا ومدركاتنا.
وإذا كان الإسلام قد جعل معيار الأخلاق وتقويمها إلى بصيرة الإنسان، يحتكم فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى ضميره- فإنه لم يغفل عن الجانب الضعيف في الإنسان، ذلك الجانب الذي تهبّ من جهته الأهواء الذاتية، والشهوات الشخصية، فتثير الاضطراب في كيان الإنسان، وتنذره بالهلاك الذي يتهدد سفينته الضاربة في محيط الحياة.. ففى كيان الإنسان نفس أمّارة بالسوء، ورغبات نزّاعة إلى الهوى.
لهذا كانت تعاليم الإسلام، موجهة إلى تقوية هذا الجانب الضعيف في الإنسان، ودعمه بكل ما يضمن للإنسان الأمن والسلام من هذا الجانب، لو أنه اتبع وصايا الشريعة، وعمل بها، ومما جاء به الإسلام في هذا:
أولا: أنه جعل الخير خيرا في ذاته، والشرّ شرّا في ذاته، ولم يلتفت إلى تلك التصورات الذهنية الطبيعة الشر والخير، وإنما نظر إليهما على أنهما كائنان قائمان في الحياة، يشعر بهما المرء، ويجد آثارهما في نفسه.
فالنار إذ يستدفئ الإنسان بها خير، والنار إذ تحرقه، شر.. إنها خير وخير محض في حال، وشر وشر محض في حال.. هذا جانب الخير يراه الإنسان في الأشياء حين يقيسها إلى نفسه، ويحكم عليها بما تقتضيه مصلحته.. ومثل هذا جانب الشر، الذي يراه الإنسان في الأشياء، حين يأخذها بمعياره الشخصي الذاتىّ أيضا.
ولا تحسبنّ الإسلام يجعل الخير والشر محصورين في دائرة الإنسان الذاتية، وفى الجانب الحسّىّ من هذه الدائرة.. أي جانب اللذة والألم.
وكلّا.. فهذا جانب وإن لم ينكره الإسلام في تقويم الخير والشر، لأنه قائم في الحياة، لا يستطيع الناس الانفصال عنه، إلا أن الإسلام- فوق هذا- يعلو بهذا الإحساس، فيرتفع، عن الجانب المادّى إلى الجانب الروحي، ومن جانب الذاتية الفردية في الإنسان، إلى جانب المجتمع الإنسانى من أضيق حدوده إلى آخرها، امتدادا واتساعا.. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى التخفيف من متاع الدنيا، كما كانت دعوته إلى البذل، والإيثار، والتضحية، ثم كان وعده بالثواب والعقاب، والجنة والنار في الآخرة.
وثانيا: كشف الإسلام للناس عن كثير من وجوه الخير والشرّ، إذ نصّ على كثير من الأمور اعتبرها خيرا، ودعا الناس إليها، وأمرهم بها، ووعدهم الجزاء الحسن عليها.. كالصدق، والصبر، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى الناس، بالقول والعمل، والوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل.. وكثير غير هذا، مما ثبت عند الناس خيره، ووجدوا آثاره الطيبة في حياتهم الخاصة والعامة على السّواء.
وكما كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير، كشف كذلك عن كثير من وجوه الشرّ، كالقتل، والسرقة، والخمر، والميسر، والزنا، والربا، والكذب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والغش، والظلم والبغي، والعدوان، وكثير غير هذا، مما جاء به القرآن، وبيّنته السنّة المطهرة.
ولا شك أن الإسلام إذ يكشف عن وجوه الخير والشر، فإنما ليؤكد ما استقرّ في ضمير الناس، وما وقع لعقولهم وقلوبهم من هذه الوجوه كلها، وبهذا تلتقى في قلب المسلم كلمة السماء، مع منطق العقل، وواقع الحياة.. فيقبل على الخير، ويعيش معه، وينأى عن الشرّ، ويحاذر الاتصال به! وإنه لا حجة لذى عقل على أن اللّه سبحانه هو الذي أوجد الشرّ، كما أوجد الإنسان الذي يتعامل معه، وإذن فلا يحاسب على لقاء شيء كتب عليه أن يلقاه- لا حجة لذى عقل على هذا، فإنه كما أوجد اللّه الشرّ، أوجد الخير، ثم دعا إلى الخير، وحذّر من الشرّ، وجعل للإنسان عقلا ينصرف به إلى الخير والشرّ. ثم جعل للخير أثرا طيبا في عاجل الإنسان وآجله، وجعل للشر أثرا سيئا في عاجله وآجله.. فإذا انصرف الإنسان عما ينفعه إلى ما يضرّه، وآثر ما يسوؤه على ما يسرّه، فهو الذي جلب على نفسه ما جلب من مكروه، لأنه هو الذي آثره، ورضى به! إن الحياة بخيرها وشرها، أشبه بمائدة ممدودة، عليها ألوان من الأطعمة، بعضها طيب، يفيد الجسم وينمّيه، وبعضها خبيث يعطب الجسم ويفسده. وعلى كل لون من ألوان الطعام لافتة تحدد صفته، وتكشف عن حقيقته، وأثره فيمن يتناوله.. وليس هذا فحسب، بل إنه يقوم على هذه المائدة ناصح أمين، يدعو إلى الأكل من الطيب، ويحذر من مدّ الأيدى إلى الخبيث: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [168: البقرة] على أنه ليس لهذا الناصح أن يمسك بأيدى الآكلين على هذا الطعام أو ذاك: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [14:
القيامة].. {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104: الأنعام].
إن الإسلام ليحترم الإنسان، ويرفع قدره، ويعلى منزلته، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد، وحمل المسئولية.. وقد أمدّه الإسلام بأمداد الرعاية والهداية، بما بعث من رسول كريم، يحمل بين يديه آيات اللّه وكلماته وضيئة مشرقة، تجلو غياهب الرّيب، وتكشف وجوه المنكر، فالحلال بيّن والحرام بيّن.. وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوىّ.. طريق الخير، والحق، والإحسان.. واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك.. طرق الشر، والبغي، والعدوان.
أما التحكك بالمماحكات والسفسطات، فجدل عقيم لا يلد إلّا البوار والهلاك.. والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان، وتوقّى الشرّ قبل أن يقع فيه.